جلس الرسول يومًا في المسجد وأصحابه حوله كالقمر وسط النجوم في ظلام الليل، يعلمهم يؤدبهم.. يزكيهم..
اكتمل المجلس بكبار الصحابة وسادات الأنصار وبالأولياء والعلماء.
وإذا بامرأة متحجبة تدخل من باب المسجد.. فسكت عليه الصلاة والسلام، وسكت أصحابه.. وأقبلت رويدًا.. تمشي وجلاً وخشية.. رمت بكل مقاييس البشر وموازينهم.. تناست العار والفضيحة.. لم تخش الناس.. أو عيون الناس.. وماذا يقول الناس.. أقبلت تطلب الموت.. نعم تطلب الموت.. فالموت يهون إن كان معه المغفرة والصفح.. يهون إن كان بعده الرضا والقبول.. حتى وصلت إليه عليه الصلاة والسلام ثم وقفت أمامه وأخبرته بأنها زنت!! وقالت: (يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني).
ماذا فعل الرسول ؟ هل استشهد عليها الصحابة؟ هل قال لهم: اشهدوا عليها؟ لا، احمر وجهه حتى كاد يقطر دمًا.. ثم حول وجهه إلى الميمنة، وسكت كأنه لم يسمع شيئًا.
حاول الرسول أن ترجع المرأة عن كلامها ولكنها امرأة مجيدة، امرأة بارة، امرأة رسخ الإيمان في قلبها وفي جسمها.. حتى جرى في كل ذرة من ذرات هذا الجسد.. فقالت – واسمع ماذا قالت -: أراك يا رسول الله تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، فوالله إني حبلى من الزنا..!! فقال: «اذهبي حتى تضعيه».
ويمر الشهر تلو الشهر.. والآلام تلد الآلام.. حملت طفلها تسعة أشهر.. ثم وضعته.. وفي أول يوم أتت به وقد لفته في خرقة.. وقالت: يا رسول الله، طهرني من الزنا.. ها أنا وضعته فطهرني يا رسول الله. فنظر إلى طفلها. وقلبه يتفطر عليه ألمًا وحزنًا.. فهو الرحمة للعصاة، والرحمة للطيور، والرحمة للحيوان.. قال بعض أهل العلم: بل هو رحمة حتى للكافر قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
من يرضع الطفل إذا قتلها؟ من يقوم بشؤونه إذا أقام عليها الحد؟ فقال: «ارجعي فإذا فطمتيه فعودي إلي» فذهبت إلى بيت أهلها، فأرضعت طفلها، وما يزداد الإيمان في قلبها إلا رسوًا كرسو الجبال.
وتدور السنة تعقبها سنة.. وتأتي به وفي يده خبز يأكله تقول: يا رسول الله قد فطمته فطهرني.. عجبًا لها ولحالها!! أي إيمان هذا الذي تحمله.. ما هذا الإصرار والعزم.. ثلاث سنين تزيد أو تنقص.. والأيام تتعاقب.. والشهور تتوالى.. وفي كل لحظة لها مع الألم قصة.. وفي عالم المواجع رواية..
ثم أتت بالطفل بعد أن فطمته.. وفي يده كسرة خبز.. وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قالت: طهرني يا رسول الله.. فأخذ طفلها وكأنه سل قلبها من بين جنبيها.. لكنه أمر الله.. العدالة السماوية.. الحق الذي تستقيم به الحياة..؟
قال عليه الصلاة والسلام: «من يكفل هذا وهو رفيقي في الجنة كهاتين».
ويؤمر بها فتدفن إلى صدرها ثم ترجم.. فيطيش دم من رأسها على خالد بن الوليد.. فسبها على مسمع من النبي فقال عليه الصلاة والسلام: «مهلاً يا خالد؛ والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه» وفي رواية أن النبي : «أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها، فقال عمر : تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟! فقال النبي : «لقد تابت توبة، لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟».
سبحان الله!! ما الذي جعلها تفعل هذا كله؟
إنه الخوف من الله.. إنها الخشية من مؤمنة وقعت في حبائل الشيطان واستجابت له في لحظة ضعف.. نعم أذنبت.. ولكنها قامت من ذنبها بقلب ممتلئ بالإيمان.. ونفس لسعتها حرارة المعصية.. نعم أذنبت.. ولكن قام في قلبها مقام التعظيم لمن عصت.. إنها التوبة يا أختاه.. نعم إنها التوبة يا أختاه..